فصل: مسألة مال محمله حتى حول رأسه إلى رأس البعير كيف يصلي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة المريض يكون مسكنه قريبا من المسجد فهو يتبلغ إليه ماشيا ثم يصلي جالسا:

ومن كتاب أوله باع غلاما:
وسئل مالك عن المريض يكون مسكنه قريبا من المسجد فهو يتبلغ إليه ماشيا ثم يصلي جالسا، قال: لا يعجبني ذلك، ولو أصابه بعد أن يأتي المسجد أمر وقد جاءه صحيحا لم أر به بأسا أن يصلي جالسا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأنه إذا قدر على الإتيان من مسكنه إلى المسجد وإن كان قريبا لا يضعف عن القيام في الصلاة، وإن ضعف عن طول القيام مع الإمام فيلزمه أن يقف معه ما أطاق، فإذا ضعف عن القيام جلس في بقية ركعته، ويفعل ذلك في كل ركعة؛ لأن القيام عليه فرض في كل ركعة، ولا يسقط عنه وهو قادر عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يكثر عليه السهو في الصلاة:

وقال مالك في الذي يكثر عليه السهو أرى أن سجدتيه إنما تكونان بعد السلام، وذلك أنه يكثر عليه السهو، وإنما هو شيء يقوله إني أتخوف أن أكون قد سهوت ولا يستيقن، فلا أحب أن يزيد في صلاته شيئا على الشك ولعله لم يسه، ولو كان يستيقن لأمرته أن يجعلهما قبل السلام.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في الذي يستنكح بكثرة الشك في النقصان، فلا يدري أنقص شيئا أم لم ينقص، ومثل هذا لمالك أيضا في رسم أوصى ورسم إن خرجت من سماع عيسى، يريد ولا يبني على اليقين لأنه مستنكح بكثرة السهو.
وقال ابن حبيب في الواضحة: إنه يسجد قبل السلام، واختاره الفضل. وقد روي عن مالك أنه لا سجود عليه في نحو هذه المسألة، فقال الفضل: إنها هذه المسألة، وإن ذلك اختلاف من قول مالك، وذهب محمد بن المواز أنها ليست هذه المسألة وإنما قال مالك: إنه لا سجود عليه في الذي يكثر عليه السهو في الصلاة لا الشك فيه، فهذا لابد له من إصلاح ما سها إذ لا يشك فيه، ثم لا سجود عليه بعد إصلاحه لكثرة سهوه، ويسجد عند فضل في هذه المسألة بعد إصلاح سهوه على ما يوقن به، وبالله التوفيق.

.مسألة مال محمله حتى حول رأسه إلى رأس البعير كيف يصلي:

وسئل عن الرجل مال محمله حتى حول رأسه إلى رأس البعير، فإذا أراد أن يصلي ويحول وجهه إلى دبر البعير، قال: لا أحب له أن يصلي إلا على سير البعير الذي يسير عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأن قبلته التي يصلي إليها إذا صلى على بعيره وجهته التي يصير إليها، لقول الله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فإذا صلى ووجهه إلى دبر البعير فقد صلى إلى غير قبلته في تلك الحال وإن كان وجهه تلقاء الكعبة، وبالله التوفيق.

.مسألة صاحب المنزل أولى بالتقدم في الصلاة في منزله:

قال مالك: لم أزل أسمع أن صاحب المنزل أولى بالتقدم في الصلاة في منزله، ولقد بلغني أن رجالا من أهل الفضل والفقه إن كانوا لينزلون بالرجل في منزله فيقدمونه فيه لأنه منزله، ولم أزل أسمع أن صاحب الدابة أولى بصدرها من الذي يردفه، ورأيته يستحسنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في كون صاحب المنزل أحق بالإمامة فيه من غيره هو أنه ليس لأحد أن يصلي في منزل غيره حتى يأذن له في الموضع الذي يصلي فيه منه، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعتبان بن مالك: «أين تحب أن أصلي فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه».
فإذا لم يكن لأحد أن يتقدم في منزل رجل إلى موضع الإمام منه إلا بإذنه وكان هو أحق بالصلاة في ذلك الموضع من غيره ثبت أنه أحق بالإمامة فيه، غير أنه يستحب له إذا كان في القوم أحق بالإمامة منه أن يقدمه، وكذلك صاحب الدابة هو أولى بصدر دابته إذا أباح للرجل أن يركب معه عليها، إلا أن يأذن له في ركوب مقدمها؛ لأن الذي يركب مقدمها هو الذي يملكها وهو الذي يحكم له بها لو تداعى فيها مع الذي يركب مؤخرها، فليس لأحد أن يزيله عن هذه المرتبة إلا باختياره وبالله التوفيق.

.مسألة النوم على الوجه وهو ساجد:

وسئل مالك عن النوم على الوجه وهو ساجد، قال من طال ذلك منه فليتوضأ أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد تقدم تفصيل القول في هذه المسألة وتبيين وجوهها قبل هذا في رسم سن فلا معنى لإعادة ذلك.

.مسألة أناس يحيون الليل كله:

فقيل له: يا أبا عبد الله، إن ناسا يحيون الليل كله، فكره ذلك كراهة شديدة وعابه وقال: إن أحدهم لا يدري ما يقرأ وينام في الصلاة، ولعله لا يصلي الصبح إلا وهو مغلوب. قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه، فأحب للرجل إذا كان يصلي من الليل فأصابه النوم أن ينام حتى يذهب عنه النوم، ولا يصلي وهو يجد ذلك. قال ابن القاسم: رجع بعد ذلك وقال لا بأس بذلك إذا قوي عليه إذا لم يضر ذلك بصلاة الصبح.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم طلق فلا فائدة لإعادته.

.مسألة القيام في الصلاة من السجود بغير اعتماد على اليدين:

وسئل مالك عن القيام في الصلاة من السجود بغير اعتماد على اليدين، فقال: لا بأس بذلك وكرهه أيضا.
قال محمد بن رشد: قال في المدونة إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد، وكان لا يكره الاعتماد. وفي رسم الصلاة الأول من سماع أشهب أنه كره ترك الاعتماد، فمرة أجاز مالك ترك الاعتماد وفعله ورأى ذلك سواء، وهو مذهبه في المدونة، ومرة استحب الاعتماد وخفف تركه، وهو الذي يدل عليه قوله في هذه الرواية، لا بأس بذلك، أي لا بأس بتركه، ومرة استحبه وكره تركه، وهو قوله في هذه الرواية: وكرهه أيضا، أي كره تركه. وقوله في سماع أشهب أيضا وهو أولى الأقوال بالصواب؛ لأنه قد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، ولكن يضع يديه ثم ركبتيه» فإذا أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يضع يديه بالأرض قبل ركبتيه في سجوده لئلا يشبه البعير في بروكه وجب بدليل قوله أن يضع يديه بالأرض إذا قام لئلا يشبه البعير في قيامه، وهذا بين وإلى هذا نحا بقوله في سماع أشهب ما يطيق هذا إلا الشاب الخفيف اللحم الذي يقول هاتوا من يضع جنبي، فكأنه رأى الاعتماد من السكينة في الصلاة، والله أعلم.
وفي البخاري: عن ابن عمر أنه كان إذا سجد وضع يديه قبل ركبتيه، وحكى عنه ابن حبيب خلاف ذلك أنه كان إذا سجد أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم يداه ثم وجهه، وإذا رفع رفع وجهه ثم يديه ثم ركبتيه.
قال محمد بن رشد: وقد روي عن وائل بن حجر أنه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك. قال ابن حبيب: ومن تحرى هذا فحسن، ومن لم يطقه فلا حرج، وذلك شأن لا يطيقه إلا الشاب الصحيح الجسم الخفيف اللحم كما قال مالك، والذي ذكر عنه البخاري أحسن وأقرب إلى السكينة، والله أعلم.

.مسألة القوم يتذاكرون الفقه القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة:

ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات:
وسئل مالك عن القوم يتذاكرون الفقه، القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة؟ قال: بل الصلاة، فقلت له: فما بين الظهر والعصر؟ قال: قيل لسعيد بن المسيب إن قوما يصلون ما بين الظهر والعصر، فقال سعيد: ليست هذه عبادة إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكير في أمر الله. قال مالك: وإنما كانت صلاة القوم بالهاجرة والليل ولم تكن هذه صلاة القوم.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك أن العناية بالعلم أفضل من الصلاة، وهو الذي تدل عليه الآثار. روي أن رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر عن صلاة ولا صيام حتى يرجع»، وقال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر»، ورأى في هذه الرواية أن الصلاة في الأوقات المرغب في الصلاة فيها كالهواجر وآخر الليل أفضل من الجلوس لمذاكرة العلم فكأنه ذهب إلى أن محافظة العلماء على الصلاة في هذه الأوقات وإيثارهم لذلك على الجلوس فيها لمذاكرة العلم إجماع منهم على أن ذلك أفضل، فخصص عموم الآثار الواردة في أن طلب العلم أفضل أعمال البر بهذا الإجماع فرأى الصلاة فيها أفضل ورأى فيما سواها الجلوس لمذاكرة العلم أفضل، لاسيما بين الظهر والعصر، لقول سعيد بن المسيب فيها ليست عبادة، أي ليست عبادة من العبادات المرغب فيها، لا أنها ليست عبادة أصلا، ولما جاء من أن عمر بن الخطاب كان إذا صلى الظهر جلس للناس يحدثهم بما يأتيه من أخبار الأجناد ويحدثونه عن أحاديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو قول له وجه والله أعلم.
وروي عن سحنون أنه قال: يلزم أثقلهما عليه. ووجه قوله أن الأدلة استوت عنده من ناحية السمع في الأفضل من ذلك، فرجع إلى ما يوجبه النظر مما قد قرره الشرع من أن الأجود في الأعمال يكون على قدر النصب والعناء فيها، وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يصيبه الوعك أيجمع الصلوات كلها:

وسئل مالك عن الذي يصيبه الوعك، أيجمع الصلوات كلها؟ فقال: إن أصابه ذلك بعد أن تزيغ الشمس فليصل الظهر والعصر جميعا، فإن أفاق من الليل صلى المغرب والعشاء جميعا فيما بينه وبين طلوع الفجر.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة في الوعك الشديد الذي يشبه المغلوب على عقله فلا يقدر معه على الصلاة. وقوله إن أصابه ذلك بعد أن تزيغ الشمس فليصل الظهر والعصر، معناه إن كان من عادته أن يصيبه ذلك بعد أن تزيغ الشمس فليصل الظهر والعصر جميعا إذا زاغت الشمس قبل أن يصيبه مخافة أن يصيبه فلا يقدر على الصلاة.
ويدل على هذا التأويل قوله في آخر المسألة: فإن أفاق من الليل صلى المغرب والعشاء جميعا فيما بينه وبين طلوع الفجر؛ لأن الذي يقدر على الصلاة مع مرضه إلا أن الجمع به أرفق لا يباح له أن يؤخر المغرب والعشاء إلى عند طلوع الفجر، ويؤمر أن يجمع بينهما عند مغيب الشفق، إلا أن هذا الذي معه عقله إن خشي مغيب الشمس ولم يصل الظهر والعصر أو طلوع الفجر ولم يصل المغرب والعشاء يصلي كيفما أمكنه، ولا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها جملة، وستأتي هذه المسألة في آخر سماع موسى وبالله التوفيق.

.مسألة يصلي في بيته فدخلت عليه شاة فأكلت ثوبا أو عجينا أيطردها:

وسئل عن الذي يصلي في بيته فدخلت عليه شاة فأكلت ثوبا أو عجينا، أيطردها ينحرف إليها؟ قال مالك: إن كان في المكتوبة فلا يفعل.
قال محمد بن رشد: قال هاهنا فلا يفعل، ووقع من قوله في سماع موسى بن معاوية فلا يقطع، ولا يؤدي ذلك إلى اختلاف.
وإنما المعنى في ذلك أنه يتمادى على صلاته ولا يشتغل فيها بطرد الشاة عن ثوبه أو عجينه إن كان طردها يسيرا لا تفسد عليه به صلاته، ولا يقطع أيضا صلاته لطردها على ذلك إن كان في طردها عنه شغل كثير تفسد عليه به صلاته.
ولم يفرق مالك في هاتين المسألتين بين أن. يكون الذي يخشى عليه من فساد ثوبه أو عجينه ما له بال وقدر وقيمة أو ما لا بال له ولا قدر لقيمته. وإلى الفرق بين ذلك ذهب ابن القاسم في سماع موسى عنه فقال في الرجل يخطف رداؤه وهو يصلي إنه لا بأس أن يقطع ويذهب في طلب ردائه ثم يستأنف صلاته.
وقال في الذي يخاف على الشيء من متاع البيت أن ينفسد مثل زقاق الزيت والخل يخاف عليها أن تنشق ما دل على أنه يسعه أن يسويها ويصلحها ويتمادى على صلاته، خلاف ما ذهب إليه مالك من كراهة الاشتغال في صلاته بنحو هذا، وهو أظهر عندي من قول مالك؛ لأنه إن ترك ذلك الشيء يفسد وله قدر وقيمة كثيرة وتمادى في صلاته ولم يشتغل بإصلاحه دخل عليه من اشتغال باله بتلفه وفساده ما هو أشد عليه من اشتغاله بتلافيه وإصلاحه ورفع الفساد عنه، مع ما في ذلك من إضاعة المال الذي قد نهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.مسألة القرية والثغر يكون فيه قوم يرابطون ستة أشهر أو أكثر أيجمعون الجمعة:

وسئل مالك عن القرية والثغر يكون فيه قوم يرابطون ستة أشهر أو أكثر، أيجمعون الجمعة؟ قال: إن كانت قرية فيها بيوت متصلة وسوق فإني أرى لهم جمعة، وإن لم يكونوا كذلك فلا أرى لهم جمعة.
قال محمد بن رشد: يريد إن كان للقرية التي يقيم فيها المرابطون بيوت متصلة لها عدد وسوق دون القوم المرابطين بها، وجبت عليهم الجمعة، وأما إن لم يبلغوا العدد المشترط في وجوب الجمعة إلا بمن فيها من المرابطين فلا تجمع فيها الجمعة.
واختلف قول مالك في اشتراط السوق في ذلك، فمرة ذكره ومرة تركه، فليس بشرط في ذلك على أصل مذهبه. وقد مضى نحو هذا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة.

.مسألة الذي يقيم الصلاة لنفسه ثم يسمع الإقامة في بعض المساجد:

وسئل مالك عن الذي يقيم الصلاة لنفسه ثم يسمع الإقامة في بعض المساجد، أترى أن يقطع ويخرج لفضل الجماعة؟ قال لا أرى ذلك إن دخل في الصلاة المكتوبة أن يخرج إلى جماعة، وليتم على صلاته.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أنه لا يقطع ويتمادى على صلاته. والوجه في ذلك أنه لما دخل في الصلاة وجب عليه إتمامها ولم ينبغ له أن يقطعها إلا لعذر، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ولا عذر له في الخروج لفضل الجماعة، إذ ليس إتيانها بواجب عليه، فلا ينبغي له ترك واجب لما ليس بواجب، وبالله التوفيق.

.مسألة خرج من الفسطاط وهو مقيم ثم اليوم واليومين أيتم الصلاة أم يقصر:

وسئل عمن خرج من الفسطاط إلى بئر عميرة وهو مقيم ثم اليوم واليومين، مثل ما يصنع الأكرياء حتى يجتمع الناس ويفرغوا، أيتم الصلاة أم يقصر؟ قال: بل يقصر.
قال محمد بن رشد: قد تكلمنا على هذه المسألة عندما تكلمنا على المسألة الواقعة قرب آخر رسم حلف، وذكرنا هناك الفرق الصحيح عندنا بين المسألتين فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.

.مسألة جمعتان في مدينة واحدة في يوم واحد:

وسئل مالك عن إمام بلد نزل منها في أقصى المدينة فصلى بمكانه الجمعة واستخلف خليفة على القصبة يصلي بهم، فكان يجمع بمن حضره ويصلي خليفته بأهل المدينة فتكون جمعتان في مدينة واحدة في يوم واحد، قال مالك: لا أرى الجمعة إلا لأهل القصبة؛ لأنه ترك الجمعة في موضعها.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قول مالك هاهنا أن الجمعة إنما تكون لأهل القصبة وأنه لا جمعة للإمام ولمن صلى معه في أقصى المدينة، وأن عليهم الإعادة ظهرا أربعا.
وهذا المعنى هنا أبين مما هو في المدونة، وإن كان ظاهرا فيها؛ لأنه لا يكون عنده على هذه الرواية جمعتان في مصر واحد. وقد روى ابن وهب وابن أبي أويس عن مالك أن صلاتهما جميعا جائزة.
وسئل عن ذلك لشك من شك في جواز صلاة من لم يصل مع الإمام، فقال صلاتهم جائزة. قال ابن وهب: ولم يشكوا في جمع الجمعة في موضعين، وإنما شكوا أن تكون الجمعة مع الإمام أوجب منها مع خليفته.
وقد قال يحيى بن عمر ومحمد بن عبد الحكم. أما الأمصار العظام مثل مصر وبغداد فلا بأس أن يجمعوا في مسجدين للضرورة، وقد فعل ذلك والناس متوافرون فلم ينكروه.

.مسألة القوم يبرزون من مكة إلى ذي طوى أيقصرون بها:

وسئل عن القوم يبرزون من مكة إلى ذي طوى يريدون المسير، أيقصرون بها؟ قال لا أرى ذلك، ولكن أرى لهم أن يتموا حتى يسيروا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الحج الثالث من المدونة، وزاد لأن ذا طوى عندي من مكة، فذكر العلة في ذلك وبان بذلك أن ذلك ليس بمعارض لمسألة جب عميرة التي تقدمت في هذا الرسم.

.مسألة يكونون في المسجد يوم عرفة فيكبرون ويدعون أيدخل معهم:

وسئل عن القوم يكونون في المسجد يوم عرفة فيكبرون فيه ويدعون حتى لا يجد بدا من كان فيه إلا أن يدخل معهم، قال: أرى له أن يخرج حتى إذا حضر الوقت رجع فصلى.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى في رسم حلف بطلاق امرأته، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة مساجد القبائل يصلى فيها بغير أردية:

ومن كتاب أوله مساجد القبائل:
قال: وسئل مالك عن مساجد القبائل يصلى فيها بغير أردية، فكرهه وقال: قال الله تبارك وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
قال محمد بن رشد: قد استدل مالك رَحِمَهُ اللَّهُ لما ذهب إليه من كراهة ترك الرداء في الصلاة في المساجد بالآية التي تلاها. وهو دليل ظاهر؛ لأن الرداء من الزينة، فكان الاختيار أن لا يترك في مسجد من المساجد تعلقا بالعموم والظاهر، وإن كانت الآية إنما نزلت في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فالفرض من اللباس ما يستر العورة منه، قال الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26]، والاختيار منه في الصلاة في المساجد بلوغ الزينة المباحة، قال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] الآية وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل ينام بعد المغرب وبعد الصبح:

وسئل مالك عن الرجل ينام بعد المغرب، قال ذلك يكره، قيل له فالنوم بعد الصبح؟ قال ما أعلم حراما.
قال الإمام: إنما كره النوم بعد المغرب؛ لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية أبي برزة الأسلمي أنه نهى «عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها».
والمعنى في النهي عن النوم قبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب النائم النوم فتفوته صلاتها في الجماعة أوفي وقتها المختار، وفي النهي عن الحديث بعدها إراحة الكتاب لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر أن القلم مرتفع عن النيام، وكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السمر إلا لمصل أو مسافر. وقال مجاهد: لا يجوز السمر بعد العشاء إلا لمصل أو مسافر أو مذاكر. ووجه السؤال عن النوم بعد الصبح ما روي عن عبيد بن عمير أن عبد الله بن الزبير قال: يا عبيد أما علمت أن الأرض عجت إلى ربها عز وجل من نومة العلماء بالضحى مخافة الغفلة عليهم، وما روي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الصبحة تمنع بعض الرزق»، وهو حديث يضعفه أهل الإسناد، فلم يصح عند مالك شيء من ذلك، ولذلك قال ما أعلم حراما.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقول: النوم ثلاثة، فنوم خرق، ونوم خلق، ونوم حمق، فأما نومة خرق فنومة الضحى يقضي الناس حوائجهم وهو نائم، وأما نومة خلق فنومة القائلة، وأما نومة حمق فنومة حين تحضر الصلوات وقد كره بعض الناس النوم بعد العصر لما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه». وقد عارض ذلك ما روت أسماء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل عليا في حاجة بعد أن صلى الظهر بالصهباء فرجع وقد صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العصر فوضع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إن عبدك عليا احتبس بنفسه على نبيه فرد عليه شرفها قالت أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض ثم قام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس». وهذا من أجل علامات النبوءة، وفيه الرتبة الجليلة لعلي بن أبي طالب، فتحفظ هذا الحديث واجب، فمن اجتنب النوم في هذه الأوقات لما جاء فيها مما يتقى منها فما أخطا، والله أعلم.

.مسألة الرجل يركع فيرفع رأسه فلا يعتدل قائما حتى يهوي إلى السجود:

وسئل مالك عن الرجل يركع فيرفع رأسه فلا يعتدل قائما حتى يهوي إلى السجود، أترى أن يعيد تلك الركعة؟ قال: لا، ولكن لا يعود. قال ابن القاسم: وهو رأيي.
قال المؤلف: مثل هذا في رسم التفسير من سماع عيسى، فالاعتدال في الفصل بين أركان الصلاة على هذا من سنن الصلاة لا من فرائضها، ومن أصحابنا المتأخرين من ذهب إلى أن ذلك من فرائضها، وإن لم يعتدل قائما في رفعه من الركوع ولا جالسا في رفعه من السجود أعاد الصلاة، ودليله ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود» وأنه قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه إذا رفع رأسه من الركوع والسجود». وهذا ليس بدليل قاطع لاحتمال أن يريد لا صلاة له متكاملة الأجر ولا تجزئ الإجزاء الذي هو أعلى مراتب الإجزاء.
واستدل أيضا بما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للذي صلى ولم يتم الركوع والسجود: «ارجع فصل فإنك لم تصل» مرة وثانية.
وهذا أيضا محتمل أن يكون إنما أمره أن يعيد ليعلمه سنة الصلاة، لا لأن الصلاة كانت فاسدة لا تجزئه، ويكون معنى قوله فإنك لم تصل، أي لم تصل الصلاة على السنة والهيئة التي ينبغي أن تصلى عليها. وسيأتي في الرسم المذكور من سماع عيسى القول فيمن خر من ركعته ساهيا ولم يرفع رأسه أصلا إن شاء الله.

.مسألة قوم في السفر وفيهم الفقيه وذو السن والقارئ من يؤمهم:

وسئل عن القوم يكونون في السفر، من ترى أن يؤمهم وفيهم الفقيه وذو السن والقارئ؟ قال: الفقيه في رأيي أرى أن يؤمهم، وإن لذي السن حقا. فقيل له أفرأيت الرجل يؤم عمه وهو أصغر منه؟ قال: العم والد فلا أرى أن يؤمه وإن كان العم أصغر منه. قال ابن القاسم إلا أن يقدمه. قال سحنون: وذلك إذا كان العم في العلم والفضل مثل ابن الأخ.
قال محمد بن رشد: قوله إن الفقيه أولى بالإمامة من القارئ صحيح؛ لأنه أعلم بأحكام الصلاة وما تفسد به مما لا تفسد منه، وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: يؤم القوم أعلمهم إذا كانت له الحال الحسنة.
قيل له فأقرؤهم؟ قال: قد يقرأ من لا ترضي حاله. هذا معنى قوله، ومعنى ما روي «يؤم القوم أقرؤهم» إن أقرأهم في ذلك الوقت كان أفقههم لأنهم كانوا يقرؤون القرآن بأحكامه من حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه وخاصه وعامه.
وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يؤم القوم أقرؤهم»، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا.
فإذا اجتمع الفقيه وصاحب الحديث والمقرئ والعابد وذو السن فالفقيه أولى بالإمامة، ثم المحدث، ثم المقرئ الماهر، ثم العابد، ثم ذو السن. وإنما كان الفقيه أولى بالإمامة من المحدث وإن كان أفضل منه لأنه أعلم بأحكام الصلاة منه.
وإنما كان المحدث أولى بالإمامة من المقرئ وإن كان أفضل منه أيضا لأنه أعلم بسنن الصلاة منه. وإنما كان المقرئ الماهر بالقراءة إذا كانت له الحال الحسنة أولى بالإمامة من العابد لأن القراءة مضمنة بالصلاة وليست العبادة مضمنة بها. وإنما كان العابد أولى بالإمامة من ذي السن لزيادة فضله عليه لكثرة قرباته. وإنما كان ذو السن أحق بالإمامة ممن دونه في السن لأن أعماله تزيد بزيادة سنه فهي زيادة في الفضل، فلو كان الأحدث سنا أقدم إسلاما لكان أولى بالإمامة منه إذ لا فضيلة في مجرد السن. ألا ترى إلى ما في الحديث من تقديم الأقدم هجرة على الأقدم سنا.
والإمامة تستوجب أيضا بأربعة أشياء سوى ما ذكرنا، وهي الأبوة، والعمومة، والإمارة، واستحقاق موضع الصلاة. فالأب يؤم ابنه إذا كانت له الحال الحسنة وإن كان أدنى مرتبة منه في العلم والفضل، وكذلك العم أيضا يؤم ابن أخيه، قال في الرواية وإن كان دونه في السن، فإذا جعله أحق منه بالإمامة وإن كان دونه في السن مع أن الزيادة في السن زيادة في الفضل فليلزم على قياس قوله أن يكون أحق منه بالإمامة وإن كان دونه في الفضل والعلم إذا كانت له الحال الحسنة، خلاف قول سحنون.
ويلزم على قياس قول سحنون أن يكون الابن أحق بإمامة أبيه وإن كانت له الحال الحسنة إذا كان الابن أظهر حالا منه في المعرفة أو الصلاح، وذلك بعيد لحق الأب على ابنه.
وأما الأمير وصاحب المنزل فلا كلام في أنهما أحق بالإمامة إذا كانت لهما الحال الحسنة وإن كان غيرهما أعلى مرتبة منهما في العلم والفضل.